وما يكاد النص العجيب يتجلى حتى يفيض النور الهادئ الوضيء ، فيغمر الكون
كله ، ويفيض على المشاعر والجوارح ، وينسكب في الحنايا والجوانح؛ وحتى
يسبح الكون كله في فيض النور الباهر؛ وحتى تعانقه وترشفه العيون والبصائر؛
وحتى تنزاح الحجب ، وتشف القلوب ، وترف الأرواح . ويسبح كل شيء في الفيض
الغامر ، ويتطهر كل شيء في بحر النور ، ويتجرد كل شيء من كثافته وثقله ،
فإذا هو انطلاق ورفرفة ، ولقاء ومعرفة ، وامتزاج وألفه ، وفرح وحبور .
وإذا الكون كله بما فيه ومن فيه نور طليق من القيود والحدود ، تتصل فيه
السماوات بالأرض ، والأحياء بالجماد ، والبعيد بالقريب؛ وتلتقي فيه الشعاب
والدروب ، والطوايا والظواهر ، والحواس والقلوب . .النور الذي منه قوامها
ومنه نظامها . . فهو الذي يهبها جوهر وجودها ، ويودعها ناموسها . .والوجود
نور فائض على الأشياء كلها من نور ذاته فهو نور السموات والأرض
وكما أنه
لا ذرة من نور الشمس إلا وهي دالة على وجود الشمس المنوّرة ؛
فلا ذرة
من موجودات السموات والأرض وما بينهما إلا وهي بجوار وجودها دالة على وجوب
وجود موجودها.
ومن عرض السماوات والأرض إلى المكشاة . وهي الكوة الصغيرة
في الجدار غير النافذة ، يوضع فيها المصباح ، فتحصر نوره وتجمعه ، فيبدو
قوياً متألقاً : كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ
الزُّجَاجَةُ . . تقيه الريح ، وتصفي نوره ، فيتألق ويزداد . .
الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ . . فهي بذاتها شفافة رائقة
سنية منيرة . . هنا يصل بين المثل والحقيقة . بين النموذج والأصل . حين
يرتقي من الزجاجة الصغيرة إلى الكوكب الكبير ، كي لا ينحصر التأمل في
النموذج الصغير ، الذي ما جعل إلا لتقريب الأصل الكبير
نُورٌ عَلَى
نُورٍ....
ظلال القرآن لسيد قطب رحمه الله....